الاثنين، 23 ديسمبر 2013

ولادة عسيرة الجزء الرابع ..



البداية كانت الخوف .. كلنا نخشى أن نكون قد وقعنا فريسة تهور .. 

أو قرار خاطئ ..

البداية كانت ترقب .. حلم بغد أفضل ، بحياة أجمل .. بسعادة ..

أن نعيش بلا أقنعة ..


هكذا شعرت ميس ما إن وطأت قدماها خارج مبنى المطار ..

تساؤلات كثيرة مرت بذهنها .. أوالديها بخير ؟ 

كيف كانت ردة فعلهما عندما تلقيا الخبر ؟

لكن هذا لم يمنعها أبدا من أن تستمع بتلك اللحظة 

لحظة السعادة والحرية ..

التعب يغمرها كأنها لم تنام سنين طوال ،

كأنها لم تعرف طعم الراحة أبدا ..

سخرية القدر أن سيارة الأجرة التي استقلتها من المطار

وحتى الفندق ، كان سائقها فلسطيني الجنسية ..


كأن الحياة تخبرها ألا تنسى أبدا من تكون ..

مرت أيام صعبة ..

صدمة حياتها عندما رأت المشردين في الشارع هنا وهناك،

كانت أول مرة في حياتها ترى شخصا ينام بالشارع .. 

تشعر بحاجتهم .. تشعر بمعنى الشقاء ..




تحكي ميس : قضيت الأيام الأولى وأنا أشعر بالخوف ..

أجل بالخوف من كل شيء حولي .. لدرجة أنني لم أغادر الفندق نهائيا ..

فضلت أن أبق بالغرفة بينما تذهب سارا وتشتري كل شيء نحتاجه 

وأنا حبيسة السرير والتلفاز ..




كانت أيام صعبة جدا ..  أين هن الخادمات؟
لم يعد لهن أي أثر. كانت تعتمد على الخادمة المسكينة 

حتى تنظف غرفتها وحمامها .  كانت تجلب لها فطورها اليومي، 


وكأسها المفضل من الشاي مع النعناع،
وتكون على استعداد تام لتنفيذ كل الطلبات والرغبات .

تقول ميس: كنت أستيقظ كل صباح وأنا أفكر بالعشرين دقيقة
التي سأقضيها في الذهاب إلى السوبر ماركت وشراء الاحتياجات اليومية
ومن ثم العودة للمنزل لأجهز فطورنا المعتاد.  

لم تعد هناك معجزات يا جماعة،
لن أفتح الثلاجة مجددا وأجد كل شيء أحتاجه

ولا أحتاجه متوفر دون أن أسأل،
ودون أن أحسب كم المبلغ المتبقي حتى آخر الشهر.

ماذا عن السيارة؟  أه السيارة التي كانت ميس تفتخر فيها ،
وتستخدمه حتى وهي ذاهبة إلى السوبر ماركت

الذي يبعد عن المنزل ١٠ خطوات..

تقول ميس : أصبحت أعرف قيمة قدماي اللتان باستطاعتهما المشي
حتى مسافة لانهائية بين المواصلات العامة بعد أن كنت أتذمر دائما
على الدقائق الخمسة عشر التي أقضيها في الإزدحام المروري 

بين مدينة دبي والشارقة، وانا بداخل سيارتي ذي الدفع الرباعي،


المكيف يعمل وغناء مايكل جاكسون يملأ المكان.   
أصبحت إنسانة مستقلة مئة بالمئة، مستعينة تماما على 

جميع قدراتي في كل شيء.


لم أعد أوفر طاقتي الجسدية من أجل أزمات محتملة


أو كوراث طبيعية قادمة .
أصبحت كأي شخص آخر، لم أعد إنسانة مميزة فقط لأنني إماراتية،
لا وجود لحياة جاهزة ، سيارة ومنزل وعمل وقرض وتعليم ومستشفى!
لا وجود لأي شيء مميز لي فقط لأنني ابنة هذه الدولة ،
وأعتقد أن اليوم الذي كنت فيه في المطار مغادرة وتجاوزت اللافتة الكبيرة
التي تقول ” لمواطني الدولة ” بكل ثقة، 

ودون الحاجة إلى الانتظار في الطابور الآخر
أين تقف زوجتي مع الجنسيات المائة الأخرى كانت تلك

اللحظة هي الخدمة الأخيرة التي تقدمها هذه الدولة لي..

بماذا تشعر ميس بعد أن نامت وأرتاحت واستعادت نشاطها 

بعد عناء سفر طويل ؟

كيف كان إحساسك بعد أن وجدتِ سكنا مناسبا تعيشين فيه مع سارا ؟

بعد أن حصلتِ على اللجوء، وأصبحتِ مؤهلة للعمل؟ ..
 


تجيب ميس: شعور غريب .. لم أكن أتخيل أبدا أنني سأمتلك وطنا آخر

غير موطني الإمارات .. لكن الوطن الفعلي

هو الوطن الذي يفتح لك ذراعيه ويتقبلك كيف كنت ،

هو الوطن الذي لا يجبرك أن ترتدي أقنعة .. أن تكون مجرد

نسخة طبق الأصل لغيرك ..

لن أدع المثالية .. الوضع كان صعبا جدا علي ..

أتعرف أنني كنت قد حصلت على عرض وظيفة

في شركة الفطيم براتب مغر

قبل ثلاثة أسابيع فقط من سفري؟  

كان كل شيء سيكون على ما يرام لولا أنني شعرت 

بأنني في قمة الغربة آنذاك ..
شعور الغربة تلك هي التي أجبرتني على الهروب ..

وأن أقبل عرضا أخرا كنادلة في مطعم هندي ..

لست أقول أنه عيب ، لكن بالتأكيد هذا التغيير الجذري كان صعبا علي ..

كيف تتوقع من فتاة بوضعي أن تتجرأ بالعمل كنادلة ؟! 

كنت أعود إلى المنزل بعض الأحيان

وأرتمي في أحضان سارا وأبدأ بالبكاء .. أبكي بحرارة ..

لأنني متعبة جدا ..

لأن قدماي لم تعد تحملاني ..

لأن زبون ما قد صرخ بوجهي لأني لم أفهم طلبيته جيدا ..

لأنني مضطرة أن أذهب إليه مجددا في الصباح التالي دون تذمر،

حتى أتمكن من دفع الإيجار في آخر الشهر ..  

أتوجد كلمات في هذه الدنيا تصف شعوري هذا ؟  




وكيف كانت ردة فعل سارا ؟



سارا ؟ لا يوجد في هذه الدنيا من ساندني وأمن بقدراتي ووقف بجانبي

كما فعلت معي سارا ، حبيبتي وزوجتي .. سارا كانت ومازالت فخورة بي ..

هي الحياة بأكملها في نظري .. لم أخبرك أننا تزوجنا ،

المرأة التي أحببتها بكل جوارحي تزوجنا رسميا بعد علاقة دامت عامين ..

تزوجنا بعد شهر واحد من وصولنا لأمريكا رسميا

أمام الناس وأمام القضاء..


كنت دوما كأي فتاة .. تحلم بفستان أبيض وطرحة من الكريستال اللامع ..

وزفة لائقة أمام حشد  سعيد من العائلة والأصدقاء ..

تحلم ببوفيه على امتداد قاعة الزفاف .. 

وأن يكون كل شيء مثاليا ورمانسيا ..  وفريدا من نوعه ..


لكن الحياة جعلتني أفهم أن الزواج الناجح ليس بكل التفاهات ..


مصدر سعادة الزوجين لا ينبع من كل هذه المظاهر الكاذبة ..

أن لا تفعل سوى ملأ معدة الحضور الكريم بكل ما لذ وطاب..
زواجنا كان بسيطا بكل معنا للكلمة ، لم يحضر أحد سوى رجل القضاء ..

وكان الزفاف في غرفة الفندق الذي أقمنا فيه عندما سافرنا

لولاية ماساشوستس للزواج قبل أن يكون قانونيا بكاليفورنيا..  

لكنني كنت أسعد إنسانة بالحياة بطريقة ما .. لأنني ارتبطت بالمرأة التي أحب.

أنا سعيدة .. لأنني أشعر لأول مرة أنني أفعل كل شيء أتمنى فعله 

دون أي تدخل من أحد..  

دون أضطر أن أجامل أحدا ..

أو أسمع من يملى علي من أفعال..




ماذا عن عائلتك ؟



تجيب ميس: رجعنا للنكد !! هههه أشعر تجاههم بخيبة مضحكة؟؟


أجل هي خيبة مضحكة عندما ظننت لوهلة أنني سأحتاج لوقت طويل

أتخلص فيه من آلامي ومن أشواقي لعائلتي ...

أنني سأشعر بلحظات ذنب .. أو ندم ..

أنني سأتمنى في بعض الأحيان العودة إلى كنفهم وإن كان جحيما !!

توقعت أن تقوم القيامة ما إن يصل خبر هروبي من المنزل ..

توقعت أن أجد تهديدات .. اتصالات عشرات المرات ..

من فلان وعلان .. وأخي أبو فلان ..

رسائل فيها أسلوب أمر تأمرني بالعودة إلى الوطن بأول طائرة

وإلا لن يحدث خير ..

توقعت أيضا أن تصل الأمور للشرطة ،  وأن يستدعيني الانتبرول ،
وأضطر أن أعود إلى الإمارات خائبة ..

وأنا أشعر بالعار
..
بالعامي يعني ..
بنتهم الصغيرة راكبة طيارة من غير محرم ..

للنص الثاني من الكرة الأرضية ،

لا وإيدها بيد بنت ثانية  اتهموها بشرفها ،وفي أنصاف الليالي بعد،،

شو أتوقع مثلا تصفقية حارة حماسية ؟؟  


لكنني اكتشفت أنني مهووسة بالمسلسلات التركية والأفلام الهندية ..

بصراحة .. حتى سارا كانت تخشى الأسوأ .. 

وكنا في انتظار كل أنواع الدراما الرخيصة ..

توقعت أن الخبر سيكون لهم كالصاعقة ،

توقعتهم سيستقظوا من سباتهم ..

ويشعرون بتقصيرهم في حقي طوال 25 سنة ماضية


توقعتهم سيشعرون بالذنب ، سيسألون أنفسهم على الأقل 

لماذا تركت المنزل؟؟!!

بس خيبة مضحكة .. ولا ربع الربع من كل هذا صار أبدا ..

تلفوني لم يرن خلال الشهر الأول .. سوى مرتين إحداهما بالغلط ..

استلمت رسالتين على البريد الالكتروني .. 

إحداهن تحمل كلمات باردة جدا .. والثانية يوصونني بصلاتي!! 

بدلا من أن يسألوني عني صحتي وعن حياتي !

واتصال واحد رسمي .. يسألونني فيها بمكان مفتاح سيارتي الاحتياطي ..

طبعا بعدما أخبرتهم أن السيارة مركونة في موقف المطار..

فقط ..


بالعامي يعني : أقول الحمدلله .. هالإهمال والجفا والتجاهل منهم ،

ساعدني أوقف على ريولي أسرع ، وما أبكي على أطلال محروقة   

الحياة تمشي .. وكل إنسان لازم يدور على سعادته بأي ثمن ويوصل له ..

لأنه لو يقعد يفكر بالناس ،، وردات فعلهم ،،

لا رح يرضيهم ولا رح يرضي نفسه، ويكون لحظتها خسر مرتين ..


قررت بعدها أن أنساهم وللأبد .. ألا أحاول التواصل معهم نهائيا ..


أخباري الأخرى طوال هذه السنة والنصف تقريبا .. تعرفونها طبعا ..

شاركتوني أغلب لحظاتي السعيدة والحزينة عن طريق قناة اليوتيوب ..

انتهى بأخر خبر .. 

رسالة من شقيقي ، 


يخبرني أنه في سان فرانسيسكو ، ويرغب في لقائي ..



يتبع الجزء الأخير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق