قصص قصيرة

القصة الأولى :  ملائكة !


كانت في طريقها إلى المركز التجاري، عندما وصلتها رسالة نصية قصيرة تفيد بأن جارتها أم أحمد، قد توفي لها في حادث سير ابن عمها ، أو ابن خالها ، أو ربما ابن ابن عمتها، في الحقيقة هي لا تعلم تحديدا من هو ومن يكون!

لحسن الحظ أن المنزل الذي سيقام فيه العزاء يقع على بعد خطوات فقط من المنطقة التي هي فيها الآن، اتجهت إلى المنزل المقصود بعد تحدثت إلى خادمة الجارة وأعطها ارشادات الطريق، وبعد أن وصلت إليه وجدت بصعوبة بالغة موقفا شاغرا تضع عليه سيارتها، يبدو أنهم تأخروا جدا في إبلاغها الخبر المفجع.  ترددت في النزول للحظات، فهي ليست على وفاق أبدا مع جارتها أم أحمد، ودائما يتبادولون الشتائم والنظرات القاسية إذا ما تقابلوا صدفة خارج منازلهم، لكن في النهاية حسمت الأمر، ستؤدي واجب العزاء وتجلس قليلا وثم تخرج.
تفحصت هندامها أمام مرآة السيارة الأمامية، وخلعت بعض الاكسسوارات التي كانت تضعها على يديها وعنقها، ومسحت بالمنديل آثار بودرة الخدود، وملمع الشفاه ووقلم تحديد العينين، ونزلت من السيارة في هدوء واتجهت إلى مدخل المنزل.

ما إن وصلت إلى الصالة الرئيسية، حيث توافد جموع المعزين هنا وهناك، الجميع متشح بالسواد، وبعضهن يقرأن آيات قرآنية، وبعضهن يجلسن معا يتهامسن بهدوء، قلبت بناظريها يمنة ويسرة تبحث عن واحدة تعرفها لكن لم تجد للأسف، لكن فجأة لمحت من بعيد جارتها أم أحمد التي كانت منشغلة بالتحدث مع الخادمة وهي تشير بيدها على الأرض وفهمت هي أن أم أحمد تأمر الخادمة بتجهيز السفرة لوجبة الغداء، ثم سرعان ما همت أم أحمد بالوقوف عندما رأتها، فاتجهت إليها مسرعة، وحضنت أم أحمد، وهي تقول لها: عظم الله أجرك، فبدأت أم أحمد بالبكاء والعويل، ووانضمت هي الأخرى إلى موكب البكاء والنحيب، واحتضنا بعضهما وهما تبكيان وينتدبان والنساء كلهن تركن ما بيدهن حتى يخفف من هول الموقف، ويطلبا منهما التحلي بالصبر، لكن سرعان ما تسقط الواحدة تلو الأخرى في موكب النحيب، وأصبح الموقف دراميا جدا، الكل يبكي، ولا يجد من يعزيه، فمن يعزي من؟ لا أدري..
بعدها  بربع ساعة تقريبا، توقف البكاء فجأة كما بدأ فجأة فبادرت هي بسؤال أم أحمد وما زالت تحضننها، من الذي توفى بالضبط؟
قالت أم أحمد: حفيد زوجي السابق! وبدأت بالبكاء من جديد.
استأذنتها بعد دقائق بهدوء وقالت أن عليها العودة إلى المنزل لأنها تركت أطفالها وحدهم فقط كي تأتي إليها وتؤدي واجب العزاء وتعود على الفور إلى المنزل..
قالت أم أحمد: لا بأس، أشكرك جدا على المجئ.
وانسحبت هي في هدوء وما إن وصلت إلى السيارة، حتى تمتمت في سرها: يا لك من منافقة شمطاء!
وأخرجت من حقيبتها أدوات المكياج، وبدأت تضع من جديد أحمر شفاه وبودرة خدود وقلم العينين والماسكارا، وأعادت وضع اكسسواراتها المخبأة في درج السيارة،
وتمتمت من جديد : كيف لي أن أسلك طريقا مختصرا إلى المركز التجاري؟

جودي أبوت



القصة الثانية: حلم؟!


جالسة وحدي على كرسي متحرك، تجره ممرضة شقراء في أواسط العمر.. نحيلة ووجهها أقرب من صورة طفل أجنبي الذي تراه على عبوة البامبرز، في بهو واسع داخل "هيريتيدج هاوس" للمسنين في شلبيفيل بولاية إنديانا الأمريكية ..
تحدثني باللغة الإنجليزية: أترغبين في نزهة قصيرة حول الحديقة؟هززت رأسي بالنفي وقلت لها: خذيني إلى غرفتي من فضلك.
اصطحبتني معها إلى الغرفة وتركتني على الكرسي المتحرك بالقرب من السرير، رفعت رأسي وقلت لها: شكرا لك، دعيني وحدي في الغرفة، متى ما احتجتكِ سأستدعيكِ...
قالت باقتضاب: كما تشائين، لكنني سآتي إليكِ بعد ساعة زمنية لأعطيكِ أدويتكِ قبل موعد الغداء..
ابتسمت لي وخرجتْ من الغرفة..
ألقيت نظرة على كل شيء حولي ... سريري الخشبي الصغير والذي عليه عدد من المخدات البيضاء... بجانبه طاولة صغيرة تحمل أدوية عدة: لضغط الدم، السكري، القلب، ومضاد الاكتئاب ومسكنات للألم بالإضافة إلى محارم ورقية وإبريق ماء زجاجي... وجال بصري إلى الكنبة البنية الموضوعة في الطرف المقابل للسرير.. الذي لم أتمكن يوما من الجلوس عليه ولن أفعل أبدا .. وتسريحة صغيرة بالقرب من النافذة التي تطل على الحديقة ولم أضع عليها سوى كريم "فازلين" وقنينة عطر قديمة لا توجد بها سوى قطرات قليلة أحتفظت بها منذ سنوات... بالإضافة إلى عدة إطارات لصور خاصة لنفس الشخص مرتبة أفقيا بجانب بعضهم تحمل ذكريات أليمة... وضعت كلتا يدي بصعوبة على عجلتي الكرسي ودفعته حتى أصل إلى طرف التسريحة... عاجزة أنا عن تحريك النصف الأيسر من جسدي بعد إصابتي بشلل نصفي إثر تعرضي لانهيار عصبي قبل عدة سنوات... مددت يدي اليمنى وأخذت الصور واحدة تلو الأخرى أتأملهم بعمق.. كانت الصور لشاب في أواخر العشرينات بشرته بيضاء وعيناه عسليتان وشعره أسود فاحم، تضخ نضارة ورجولة، لطالما ظنت الممرضة أنه ابني ... أغلقت عينيَ وأنا أحتضن صورته بين يدي اللتان عفا عنهما الزمن وامتلآ بالتجاعيد.. يحكيا مأساة حقيقية.. يا إلهي!! مرت ثلاث عقود منذ أن رأيتُ حبيبي لآخر مرة .. أذكر كيف انفصلنا بصورة أليمة وبشعة بسبب أنانيتي.. انفصلنا وابتدأت مأساتي فلم أعد أملك سببا للعيش، ودمرت بكلتا يدي أجمل ما قد حدث لي في هذا الوجود.. أين هو الآن يا ترى؟؟ أتراه في الولايات المتحدة كما كنا نحلم أن نعيش معا دوما؟ أنا حققت هذا الحلم المبتور.. وأتيتُ إلى هنا وحدي .. كان من المفترض أن نعيش سويا ما تبقى لنا من العمر ونحقق كل الطموحات والأحلام التي لطالما راودتنا، لم أحقق شيئا للأسف.. حتى مجيئي إلى هنا كان وأنا ذليلة واطئة الرأس والهامة.. هربت من منزل والديَ عندما أجبراني على الزواج ما إن أقبلت على الثلاثين على ابن عمي .. لم يتقبلا رفضي لكل العرسان.. خسرته قبل ذلك بأعوام لكني لم أشأ أن يلمسني أحد غيره .. وفشلت في أن أعشق غيره.. ففؤادي لم يتعلم النبض إلا من أجله... اضطررت إلى السفر ولم أجد غير هذا البلد أفر إليه.. وكأنني كنت على قناعة تامة بأنني سأجده هنا وأرتمي بين أحضانه .. لكنها كانت مجرد أحلام يقظة تعبت من العيش فيها.. لم يأتيني أي أخبار عن والديَ ولم أر حبيبي .. انقطعتُ تماما عن هذه الدنيا ... ولم يبق لي سوى هذه الغرفة .. هذه الغرفة أصبحت عالمي من بعده.. مأتمي وموكب أحزاني وأفراحي... كله هنا بين جدران هذه الغرفة الصغيرة... أنا حبيسة ذكرياتك أنت فقط.. لم أستطع فعل شيء أبدا بعدك، لأنك أنت من كنت تلهمني وتبث فيَ كل المشاعر والقوة .. لا أدري كيف وصلتُ إلى هنا فعلا.. أكان الشلل هو السبب؟ والذي أجبرني على القعود بعدما عجزت على تلبية كافة رغباتي الشخصية.. والوحدة الذي كنت أعيشها لدرجة أنني كنت في كل مرة أجدد فيه عقد إقامتي في الشقة أبحث عن مكان جديد يأويني حتى لا أبقى حبيسة الوحدة والغربة والفراغ العاطفي حتى أصبت بذلك الانهيار اللعين والذي أفقدني حواسي وقدرتي على الحركة... ليت الزمن يعود بي إلى الوراء إلى ذلك اليوم المشؤوم .. حتى أقبل يديك وقدميك وأسألك العفو .. ليتني أستطيع رؤية وجهك مرة أخيرة قبل أن يأخذ الله ما تبقى بي من روح... حتى أقول لك: أريدك أنت فقط ولا يهمني العالم بأسره ولا الفوارق الاجتماعية أو الدينية .. فبفراقك أنت سينتهي حياتي.. وتتوقف أنفاسي.. وتحكم علي الدنيا بالفناء .. بالضياع .. بالتعاسة حتى آخر العمر.. 
شعرتُ بيد باردة تلامس أصابعي.. أصابني بقشعريرة لذيذة لم أشعر بها فترة طويلة.. فتحتُ عينيَ ببطء شديد وصعقت وأنا أراه أمامي متعجبا من شرودي. ماذا تفعل هنا يا حبيبي؟ أيعقل أنك وجدتني أخيرا؟ لكنك كما أنت شابا تلفحني رجولة! أيعقل أنني أصبحتُ أحدّث طيفا بعد هذا العمر؟ ما الذي يحدث؟ طيب ، أين هو كرسيّ المتحرك؟ كيف يعقل ذلك؟ أأنا في حلم غريب الآن أم أنني كنت قد قضيت أعواما أحلم؟ أم أن الله حقق أمنيتي أخيرا وبعثني بين أحضانه من جديد؟ 
جودي أبوت


القصة الثالثة: على الطريق
 

          قسوة ... ضياع .. في الحقيقة ..  لست أدري .. كل ما أعرفه أنني في أوج ضعفي .. في قمة حزني ويـأسي .. تدمرني الذكريات من الداخل .. تجعلني هشة منذ ذلك اليوم الذي خرجت فيه كصاروخ مندفع وسقطت بكل قسوة على قارعة الطريق .. أصبحت منذ تللك اللحظة حبيسة هذه البقعة بالذات ولا أقوى على الحراك بوصة واحدة .. أشهد شروق الشمس وغروبها .. أشهد الأيام الجافة والمطيرة .. أصبحتُ من تلك الساعة أداس على الأقدام المتعجلة كل خمس ثوان .. تهرع إليّ أفواج الحشرات.. وسرعان ما تبتعد عني بنفس السرعة التي أتت بها .. لا أدري إن كنت نتنة الرائحة أم لا.    لأنهم لم يسمحوا لي أن أتحدث معهم مطلقا، فلم أتعرف على أحد أبدا كل تلك المدة ، لكنني على الأقل، استطعت أن أحفظ ماركات عجلات السيارات وكل وسائل المواصلات التي تمر على هذا الطريق .. أصبحت الآن أعرف نوع السيارة،  وأخمن حالة المادية للسائق من خلال عجلات مركبته،  ومعرفة جنس السائق وحالته النفسية التي تبدو واضحة من طريقة قيادته والتحكم بتلك العجلات  ..  أيضا أصبحت بارعة في معرفة أنواع مختلفة من الأحذية..

          رغم صغر حجمي إلا أنني أستوقفت الكثيرين ممن يمشون بخيلاء ويلاحظون وجودي.  البعض يقرر أن يخطو بعيدا عني حتى لا ألتصق بحذائه الجديد أو الملمع بأناقة ، لا يحبون أن أعيق مشيتهم وخطواتهم..  وبعض السيدات تمشين رافعات فساتيهن أو عباءاتهن باهضة الثمن حتى لا أوسخها.. الغريب أنني لم أجد حتى الآن من يتجرأ أن يأخذني من تلك البقعة .. هو سيحملني بكل تأكيد بواسطة محرم ورقي ليحمي يده المعقمة بعناية ويرميني بأقرب سلة مهملات .. الحق أنني فعلا لا أبالي ، فبالرغم من قذارة المكان كما سمعت من ثرثرة المارة .. إلا أنه سيكون أفضل من المكان الحالي .. على الأقل لن أرى آلاف المخلوقات التي لا تراني أو تتصرف كأنها لا تراني .. على الأقل سأعرف كل من يشاركني تلك البقعة وسيتسنى لنا مع الأيام أن نتآلف .. هنا، أشعر بأنني مركبة فضائية معطلة في أحد المجرات السماوية وأصبحت ساكنة بين السماء والأرض .. أو بين الشمس والقمر .. والكون المجهول يسير من حولي بسرعة فائقة .. والكواكب تتطاير فوق رأسي .. سئمت من هذا المكان .. سئمت من المجهول .. سئمت من التخمين عن أشياء أجهل حتى أسمائها الحقيقية .. سئمت من التواجد في غير مكاني الطبيعي .. ومن عدم تلائمي وتأقلمي .. وكأنني قطرة زيت سقطت في قعر ماء .. سئمت من أن أشعر بالخوف في كل ثانية حتى لا أداس على مئات الأقدام .. سئمت من أن يتجنبني الآخر وكأنني وباء .. أريد مغامرة أخرى .. حياة جديدة .. أشكالا مختلفة .. ترى الملاك الموقر الراقد بداخلي .. أريد أن أمتلك مملكتي الخاصة شعبها من يؤمن بي وبقدراتي الخارقة في زرع الحياة من جديد .. في تحقيق الأحلام الخرافية ..  سئمت جدا أن أكون لا شيء ..   لا يعقل أن الحياة أوجدتني فقط كي أكون مرمية على قارعة الطريق ..  

جودي أبوت