السبت، 28 ديسمبر 2013

ولادة عسيرة الجزء الخامس والأخير




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن العاشرة مساءا ..

كنت قد عدت إلى المنزل جالسة على فراشي

أتفحص البريد الالكتروني وصفحة الفيس بوك

والتويتر كعادتي في كل مساء ..

لأفاجئ برسالة من شقيقي ، 

الرسالة كانت مقتضبة يخبرني فيها أنه في

الولايات المتحدة ويتساءل 

أية من الولايات أعيش أنا ؟

قلت لنفسي .. محال أن يكون في كاليفورنيا،

أمن بين الخمسين ولاية سيختار ولاية المثليين ؟

أجبته بثقة ولاية كاليفورنيا .. 

تحديدا مدينة سان فرانسيسكو..

من حسن حظه أنه كان "أون لاين"

ليأتيني رده السريع: أنا في سان فرانسيسكو!!  
توقف الزمن .. توقفت عقارب الساعة عن الحركة ..

توقفت كل الأصوات حولي ولم يبق سوى

صوت دقات قلبي المتسارعة..  

شعرت وكأن دلوا ضخما انسكب على رأسي ..

لم أعرف بماذا أجيب ..

ظننت للحظات أنه إنذار كاذب كما حدث معي

أول مرة .. لم أكن مستعدة لأي شيء ..

ودون أن أعط لنفسي فرصة استيعاب الفكرة ،

قررت أن أوافق على اللقاء وليكن الذي يكن ..

اتفقت معه أن يكون اللقاء في نهار اليوم التالي

الساعة الرابعة والنصف في مركز ويست فيلد

بمدينة سان فرانسيسكو ، تحديدا في ردهة المطاعم .




تك .. تك .. تك .. الساعة الأن الحادية عشر مساءا ..

مازلت في نفس الوضعية السابقة ..

في محاولة يائسة لاستيعاب الفكرة ..

ماذا يفعل هنا؟ لماذا يريد مقابلتي ؟

أهو مقلب سخيف ؟ أتى بصحبة من ؟ أمي ؟

أم شقيقي الأكبر ؟ أم والدي ؟ أم مع أسرته ؟ لا أدري !




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الثانية عشر مساءا ..

اتصلت بصديقنا المثلي "أكس"

واتفقت معه ومع سارا الخطة ٠٠٧ !

الخطة كانت كالتالي ، نلتقي نحن الثلاثة في

مركز ويست فيلد قبل الموعد بساعة كاملة ،

لنختار مكانا مناسبا في الردهة أينما

يكثر الحشد البشري .. سأجلس أنا في طاولة ،

وتجلس سارا وأكس في طاولة مقابلة بحيث

تكون الرؤية بيننا واضحة..




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الواحدة 

بعد منتصف الليل ..

نامت سارا ومازالت عيناي تبحث إجابات

على مئات الأسئلة .. 

أتقلب في فراشي في محاولة يائسة للنوم ..




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الثانية بعد 

منتصف الليل ..استرجعت يوم السفر ،

واسترجعت كل الذكريات السيئة التي عشتها

معه يوما ما .. استرجعت طفولة مبتورة

ومراهقة مخيفة .. استرجعت مشاعر كانت

مختبئة في مكان ما في ركن الغرفة..

فجأة ، لم يعد بإمكاني التنفس ، صدري قد ضاق بي




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الرابعة صباحا ..

مازلت مستيقظة !! كل شيء أصبح جاهزا ..

حتى تسريحة شعري وملابسي ..

ليست سخفا مني، ماذا عساي أن أرتدي لمقابلة

شقيقي المتدين جدا .. الذي كان يشتاط غضبا

في يوم ما لشعرة واحدة خرجت من تحت غطاء

الرأس .. الموضوع أصعب مما يمكن تخيله ..




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن السابعة

والنصف صباحا ..

استيقظت  ولأول مرة قبل أن تستيقظ سارا !!

شعرت وكأنني لم أنم مطلقا ..

مرت الساعات بطيئة الخطى ..

بين الصمت المطبق .. ونظرات تشحذ الرأفة ..

لم نتحدث كثيرا أنا وسارا .. كانت مشاعري أصعب

وأعقد من أن أحولها لكلمات ..

بين لحظة وأخرى ، تقترب مني سارا وتحتضنني

وتخبرني أن كل الأمور ستكون على ما يرام..




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الواحدة ظهرا ..

مللت الانتظار فقررت الخروج أبكر ،

استحممت ، وارتديت بنطلون جينز أزرق ضيق ،

وقميص بني رسمي، وصادف إني وضعت مانيكير

أزرق قبله بيومين، مكياج نهاري وشعر مفرود ..

قلت في نفسي وأنا أضحك: هذا المنظر فقط

سيحرمه من النوم أسبوعا كاملا !   




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الثانية ظهرا.

كنا على وشك الخروج من المنزل سوية ،

وضعت عيني بعين سارا ، وأنا أقول :

- ممكن طلب ؟

- آمريني

- أنا مش عارفة شو اللي ناطرني اليوم ،

بصراحة أنا متوقعة منه أي شي ، أي شي ،

لدرجة إني حاطة في بالي إنه احتمال يكون

جايب معه سكين ورح يطعنني أول ما يسلم علي
- بعيد الشر عنك حبيبتي ، خليكي متفاءلة

- أنا متفاءلة ، بس ف نفس الوقت مجهزة

نفسي لكل شيء ، واللي رح أطلبه منك

يا سارا ، لو أخوي عمل فيني شيء وأنهى حياتي،

أريدك توعديني إنك ما رح تتركيه يترك البلد

قبل لا يدفع الثمن .. أرجوك لا تتركيه يا سارا

- ميس ، لو انتي خايفة لهالدرجة وحاطة ف بالك

هيك احتمال بشع، خلينا نحكي مع شرطة الأمن

اللي بالمركز كرمال يفتشوه قبل لا تقابليه

- لا مستحيل ! انتي مفكرة إني خايفة من

الموت حبيبتي؟ بالعكس ما عندي أي مشاكل ،

لو أنا خايفة صدقيني كنت لغيت فكرة المقابلة

من أساسه .. بس أنا محتاجة كثير أحط عيني

ف عينه وأواجهه أخيرا ، ويصير اللي يصير.

خرجنا من المنزل .. الصمت لغة الكلام ..

يتخلله تنهداتي كل خمسة ثواني ..

في تلك اللحظة عرفت شعور أضحية العيد

هو يساق إلى أجل مرير.




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الثالثة ظهرا..  

نحن أمام مدخل مركز ويست فيلد،

اتفقنا أن ندخل فرادى حتى لا ينتبه شقيقي

إلى سارا بصحبة صديقنا إكس شخص مقرب

ومحايد في حالة الطوارئ.

من غير مقدمات .. أصبحنا نمثل مشهد في

فيلم mission impossible

جالسين قبالة بعضنا .. أرقب الساعة كل ثانية ،

وأشعر أنني على وشك الانهيار .. انقطع التواصل

بيننا منذ أن دخلنا المركز ، فقط نتبادل الرسائل

عن طريق الواتس أب



تك ..  تك ..  تك  الساعة الآن الخامسة مساء إلا

عشرة دقائق أقبل أخيرا ، بنفس البنية التي

اعتدت عليها ، بنفس اللحية الكثيفة ، بنفس الابتسامة

الباردة تمام كتحيته الباردة الباهتة.  

كأنني كنت بصحبته بالأمس أيضا ،

مد يده ليصافحني وكذلك فعلت أنا بالمقابل،

وجلس بجانبي .  مرت ساعة كاملة تقريبا

وأحاديثه غريبة وأسئلته أغرب :

- الجو عندكم كثير حلو ، خصوصا بالليل

- أنا نازل بفندق ماريوت ف الداون تاون وكل شي قريب مني

- أمس زرت جسر البوابة الذهبية ، وصورت صور كثيرة

- مرتي حامل ، ومرت خالي سقطت من شهرين

- طيب قوليلي ، وين من أماكن حلوة سياحية أقدر أروح له ؟

- اليوم تغديت بمطعم مغربي، جربتيه ؟


تسألونني كيف كانت ردة فعلي ؟ 

وماذا كانت أجوبتي ؟

ليس مهما فعلا .. أعصابي فجأة تحولت

من سكرات الموت إلى شخصية كرتونية

مندهشة.. أتساءل في كل لحظة إذا كنت

قد قطعت كل هذه المسافة لأسمع

"يوميات مطوع في سان فرانسيسكو! "

أختلس النظر بسرعة إلى سارا المتخفية

تحت نظرات سوداء وقبعة صيفية ،

وقد تحولت إلى ممثلة تركية برفقة عشيقها

في مشهد عاطفي بصحبة أخونا المثلي إلى الله !

تذكرني بجيمس بوند، النسخة الأنثوية!

أبتسم لها، لتصل رسالتي كالتالي : أنا بخير، لا داعي للقلق أبدا..




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن السادسة إلا ربعا ،

توقف عن الحديث الآن .. يريد أن بشرب اسبريسو،

اضطررنا لتغيير أماكننا بعد أن ذهبنا إلى مقهى صغير

مجاور.  أرسلت رسالة مقتضبة إلى سارا أخبرها 

عن موقعنا الجديد.

بدأ الحوار الذي طال انتظاره

- أنا أساسا جيت سياحة، لا تفكرين إني جيت

عشانج مثلا؟ عشان أشوفج أو أقابلج ؟

لا أبدا ، صاحبي اقترح علي نجي على

سان فرانسيسكو سياحة لأنها مدينة حلوة،

ومن محاسن الصدف طلعتي انتي بنفس المدينة .

 أنا أصلا ما كنت أعرف إنك بولاية كاليفورنيا..

- سبحان الله ! طيب ؟

- انتي ليش مفكرة إنو حياتنا وقفت

لما قررتي تهربي وتسافري؟  

بالعكس احنا حياتنا ماشية تمام التمام طولا وعرضا!

- ومن قال إني فكرت جيه ؟

- حضرتج رسلتي رسالة لنا كلنا بعد فترة

من هروبج وقعدتي تلومينا كلنا على سفرج.

- طيب ؟ وهل هالشي غلط ؟

- طبعا غلط ، شوفي يا ميس..

انتي المفروض ما تلومين غير نفسج ..

انتي اللي اخترتي تهربي ولازم تتحملي 

مسؤولية قرارج للآخر.

- انت لو حابب تقولي هالكلمتين عشان

حضرتك تقدر تنام بالليل وانت مرتاح،

فهذا طبعا شيء راجع لك ،

بس لو شو تقول من اليوم لباجر،

انتوا كنتوا السبب ف كل شيء صار لي ،

وانتوا السبب إنكم طفشتوني من البلد 

وتركت لكم كل شيء.

- مستحيل ! انتي اللي هربتي عشان

حلمتي بالحرية المزيفة ، حلمتي تعيشين من

غير مسؤولية، وتبيعي نفسك ودينك عشان

شهواتك المكبوتة.

-ههههه من صجك! ضحكتني بجد! 

أنا اللي عايشة من غير مسؤولية؟

- مدري عنج! بغيتي الساحة تفضى لج

عشان تسرحي وتمرحي على كيفج من

غير ما يكون عندج أهل يوقفونج ويحاسبونج.

- غلطان ! ومليون بالمية !

أساسا انتوا وجودكم في حياتي كان مثل عدمه..

أنا كنت بينكم وفاقدة احساس العيلة ،

واحساس الأمان .. أنا أصلا ما حسيت

بقيمة نفسي إلا ألحين .. وهالحرية المزيفة

اللي تحكي عنها كنت أقدر أعيشها حتى

وأنا محبوسة عندكم ف غرفتي.

- انتي إنسانة ناكرة للجميل، أنا كنت طول عمري

أحسدج على كل شي حصلتيه من أهلنا ..

أبوي دخلج أحسن الجامعات وحصلتي سيارة

بنفس اليوم اللي حصلتي فيه رخصة سواقة ،

ووافقوا يخلونج بسكن ولو إن هالشي يعارض مبادئنا ،

وكل شي كان خاطرج فيه تلقينه عندج على طول ..

- أول شي الجامعة دخلتها بتعبي وجهدي ونسبتي

العالية في الثانوية، وما أعتقد إن هالشي كان

محصور فيني مثلا .. ثاني شي انت بجد تثبت لي

إنك ما تعرفني نهائيا.. تحسدني على شو ؟

انت مفكر إن الفلوس هي همي ؟

مفكر إن سعادتي مرتبطة بالمادة ؟

عمره الفلوس ما عوضني ظل عيلة حقيقية

تخاف علي.. لو كان همي الفلوس يا سيدي

كنت ما رميت سيارتي الجديدة بالمطار

وتخليت عن كل شيء عشان ألقى احترام نفسي ..

- محد جبرج تسوين هالشي ..

- لا أجبرتوني .. وطفشتوني ..

أنا هجيت لأن حياتي كانت على المحك ..

أنا لو ظليت أيام زيادة ، كنت رح أخسر حياتي ..

كنت انقتلت على إدينكم ، وحياتي أغلى

من إنها تضيع بذاك الشكل..

- انتي طول عمرج تعسية وضايعة

ومب عارفة شو تبين .. وتحبي تلعبي دور الضحية ..

- أنا طول عمري تعيسة وضايعة بيناتكم،

بعد كل شيء مريت فيه، كنت دايما مرمية

في الزاوية وتعاملوني كني نكرة ..

تعرف شي ياخوي؟ أنا فعلا كنت ضحية ..

ضحيتكم ، ضحية اغتصاب جنسي ، وجنس محارم ،

كنت ضحية عنف أسري ضرب وعنف لفظي ،

والأسوأ من كل هذا إني كنت ضحية سكوتكم

وخوفكم على سمعة العيلة المحترمة المتدينة ..

انت بالذات ما كان هامك شي غير صورتك جدام

الناس وطز ف كل شي حتى لو انتحرت بسببكم ..

بس ألحين أنا ماعدت ضحية لأني عرفت أنقذ

نفسي منكم وأعيش بأمان ..

أنا ف حياتي ما عشت بسعادة غير بعد ما تركتم

.. أنا سعيدة وفخورة بنفسي كثير..

- طيب خلص، عيشي وانبسطي وسوي

كل الفجور اللي خاطرج فيه .. هذا اللي تبينه صح ؟

- فجور ؟ مفكرني فاتحة مكتب دعارة ؟!

صدق وإلا ما تصدق بس أنا من يوم ما جيت

ما لمسني نصف رجل ..بعكس وضعي بيناتكم ..

- يعني تبين تقنعيني إنج ما تطلعين مع رياييل ؟

- شوف كلامي وشوف ردودك ؟

حتى وانت اهنا جدامي بعدك شاطر ف الهروب ..

يا عمي أنت تتكلم مع وحدة لا دينية ..

هذي موضوع الخلوة مع رجل وماعرف شو ما

تمشي علي .. أنا عندي أصحاب كثير شباب

وأطلع معهم طبعا ..

- هههه طمنتيني !

- قول اللي يريحك ياخوي ,, قول اللي يساعد

ضميرك يموت ..

- أنا ضميري مب ميت .. انتي مفكرة إني

ما أتألم وأنا أشوفك بهالمنظر الفاحش ..

- هذا الشي الوحيد اللي يؤلمك وجاي تقولي إياها ..

أنا حرة ومسؤولة تماما عن تصرفاتي ..

هذي أنا ، والموضوع راجعلك لو تريد تتقبلني أو لا .

- انتي مثل العادة ضايعة ومش عارفة

شو تريدي من حياتك . متأثرة بالغرب الكافر ،

أنا أصلا لو دخلت بمحل حلاوة ،

ولقيت حلاوة مغطاة والثانية مكشوفة 

رح أختار المغطاة طبعا ..

- هذي آخرتك ؟ مشبه المرأة بقطعة حلاوة ؟




تك .. تك .. تك .. الساعة الآن الثامنة مساءا !!

ومازلنا نصرخ في وجه بعضنا ..

لم يعد أحدنا يسمع الأخر .. استسلمت  

أخيرا عن الكلام .. في تلك اللحظة بالذات

اكتشفت أن الحوار بيينا معدوم ..

قد مر علينا ١٨ شهرا وكأنه البارحة ..

لا شيء تغير أبدا .. هم في عالم .. 

وأنا في عالم مواز تماما ..

وقفت .. قلت له بهدوء : سعدت بشوفتك ياخوي ..

بس أنا لازم أروح وراي دوام بكرا ..

أشوفك على خير ..

ذهبت بعيدا وتركته وطويت معه أخر صفحة إماراتية ..

صفحة عائلية ..

صفحة دينية ..

صفحة عربية ..

صفحة مجتمعية !  

انتهى بيننا كل الكلام ..

وكل الفرص ..

وانتهت كل أبجديات الحوار ..  

ولم يعد هناك أمل للنظر إلى الوراء أبدا ..

لم أنظر ورائي أبدا  

هنا جف قلمي ووضعته جانبا بعد الفصل الأخير

من رواية حياتي مع عائلتي..

نسيت أن أخبركم ..


كانت الساعة حينها تشير إلى الثامنة والنصف مساءا !