الاثنين، 21 مايو 2012

القصة الثانية: حلم؟!



جالسة وحدي على كرسي متحرك، تجره ممرضة شقراء في أواسط العمر.. نحيلة ووجهها أقرب من صورة طفل أجنبي الذي تراه على عبوة البامبرز، في بهو واسع داخل "هيريتيدج هاوس" للمسنين في شلبيفيل بولاية إنديانا الأمريكية ..
تحدثني باللغة الإنجليزية: أترغبين في نزهة قصيرة حول الحديقة؟هززت رأسي بالنفي وقلت لها: خذيني إلى غرفتي من فضلك.
 اصطحبتني معها إلى الغرفة وتركتني على الكرسي المتحرك بالقرب من السرير، رفعت رأسي وقلت لها: شكرا لك، دعيني وحدي في الغرفة، متى ما احتجتكِ سأستدعيكِ...
قالت باقتضاب: كما تشائين، لكنني سآتي إليكِ بعد ساعة زمنية لأعطيكِ أدويتكِ قبل موعد الغداء..
ابتسمت لي وخرجتْ من الغرفة.. 
       ألقيت نظرة على كل شيء حولي ... سريري الخشبي الصغير والذي عليه عدد من المخدات البيضاء... بجانبه طاولة صغيرة تحمل أدوية عدة: لضغط الدم، السكري، القلب، ومضاد الاكتئاب ومسكنات للألم بالإضافة إلى محارم ورقية وإبريق ماء زجاجي... وجال بصري إلى الكنبة البنية الموضوعة في الطرف المقابل للسرير.. الذي لم أتمكن يوما من الجلوس عليه ولن أفعل أبدا .. وتسريحة صغيرة بالقرب من النافذة التي تطل على الحديقة ولم أضع عليها سوى كريم "فازلين" وقنينة عطر قديمة لا توجد بها سوى قطرات قليلة أحتفظت بها منذ سنوات... بالإضافة إلى عدة إطارات لصور خاصة لنفس الشخص مرتبة أفقيا بجانب بعضهم تحمل ذكريات أليمة... وضعت كلتا يدي بصعوبة على عجلتي الكرسي ودفعته حتى أصل إلى طرف التسريحة... عاجزة أنا عن تحريك النصف الأيسر من جسدي بعد إصابتي بشلل نصفي إثر تعرضي لانهيار عصبي قبل عدة سنوات... مددت يدي اليمنى وأخذت الصور واحدة تلو الأخرى أتأملهم بعمق.. كانت الصور لشاب في أواخر العشرينات بشرته بيضاء وعيناه عسليتان وشعره أسود فاحم، تضخ نضارة ورجولة، لطالما ظنت الممرضة أنه ابني ... أغلقت عينيَ وأنا أحتضن صورته بين يدي اللتان عفا عنهما الزمن وامتلآ بالتجاعيد.. يحكيا مأساة حقيقية.. يا إلهي!! مرت ثلاث عقود منذ أن رأيتُ حبيبي لآخر مرة .. أذكر كيف انفصلنا بصورة أليمة وبشعة بسبب أنانيتي.. انفصلنا وابتدأت مأساتي فلم أعد أملك سببا للعيش، ودمرت بكلتا يدي أجمل ما قد حدث لي في هذا الوجود.. أين هو الآن يا ترى؟؟ أتراه في الولايات المتحدة كما كنا نحلم أن نعيش معا دوما؟ أنا حققت هذا الحلم المبتور.. وأتيتُ إلى هنا وحدي .. كان من المفترض أن نعيش سويا ما تبقى لنا من العمر ونحقق كل الطموحات والأحلام التي لطالما راودتنا، لم أحقق شيئا للأسف.. حتى مجيئي إلى هنا كان وأنا ذليلة واطئة الرأس والهامة.. هربت من منزل والديَ عندما أجبراني على الزواج ما إن أقبلت على الثلاثين على ابن عمي .. لم يتقبلا رفضي لكل العرسان.. خسرته قبل ذلك بأعوام  لكني لم أشأ أن يلمسني أحد غيره .. وفشلت في أن أعشق غيره.. ففؤادي لم يتعلم النبض إلا من أجله... اضطررت إلى السفر ولم أجد غير هذا البلد أفر إليه.. وكأنني كنت على قناعة تامة بأنني سأجده هنا وأرتمي بين أحضانه .. لكنها كانت مجرد أحلام يقظة تعبت من العيش فيها.. لم يأتيني أي أخبار عن والديَ ولم أر حبيبي .. انقطعتُ تماما عن هذه الدنيا ... ولم يبق لي سوى هذه الغرفة .. هذه الغرفة أصبحت عالمي من بعده.. مأتمي وموكب أحزاني وأفراحي... كله هنا بين جدران هذه الغرفة الصغيرة... أنا حبيسة ذكرياتك أنت فقط.. لم أستطع فعل شيء أبدا بعدك، لأنك أنت من كنت تلهمني وتبث فيَ كل المشاعر والقوة .. لا أدري كيف وصلتُ إلى هنا فعلا.. أكان الشلل هو السبب؟ والذي أجبرني على القعود بعدما عجزت على تلبية كافة رغباتي الشخصية.. والوحدة الذي كنت أعيشها لدرجة أنني كنت في كل مرة أجدد فيه عقد إقامتي في الشقة أبحث عن مكان جديد يأويني حتى لا أبقى حبيسة الوحدة والغربة والفراغ العاطفي حتى أصبت بذلك الانهيار اللعين والذي أفقدني حواسي وقدرتي على الحركة... ليت الزمن يعود بي إلى الوراء إلى ذلك اليوم المشؤوم .. حتى أقبل يديك وقدميك وأسألك العفو .. ليتني أستطيع رؤية وجهك مرة أخيرة قبل أن يأخذ الله ما تبقى بي من روح... حتى أقول لك: أريدك أنت فقط ولا يهمني العالم بأسره ولا الفوارق الاجتماعية أو الدينية .. فبفراقك أنت سينتهي حياتي.. وتتوقف أنفاسي.. وتحكم علي الدنيا بالفناء .. بالضياع .. بالتعاسة حتى آخر العمر..       
    شعرتُ بيد باردة تلامس أصابعي.. أصابني بقشعريرة لذيذة لم أشعر بها فترة طويلة.. فتحتُ عينيَ ببطء شديد وصعقت وأنا أراه أمامي متعجبا من شرودي.  ماذا تفعل هنا يا حبيبي؟ أيعقل أنك وجدتني أخيرا؟ لكنك كما أنت شابا تلفحني رجولة! أيعقل أنني أصبحتُ أحدّث طيفا بعد هذا العمر؟  ما الذي يحدث؟ طيب ، أين هو كرسيّ المتحرك؟ كيف يعقل ذلك؟ أأنا في حلم غريب الآن أم أنني كنت قد قضيت أعواما أحلم؟ أم أن الله حقق أمنيتي أخيرا وبعثني بين أحضانه من جديد؟ 
جودي أبوت

هناك تعليق واحد: