الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

ولادة عسيرة الجزء الثالث



هل تعرفون تلك اللحظة الفارقة التي يتوقف فيها الزمن لأنك تكون عند زاوية حادة

من الأحداث التي ستغير حياتك ؟ تلك اللحظة التي تشعر فيها أن عيون جميع الناس

عليك حتى الشوارع والساحات والنوافد والأبواب والجدران ، كل شيء يراقبك

ويترقب معك !

أعرف أن الأمر يبدو جنونيا لكن كل واحد منا يمر بذلك على الأقل مرة واحدة

في حياته اللعينة.

ما أتذكره بالإضافة إلى كل التفاصيل التي حدثت هو شعوري بأنني أنسلخ من نفسي .

الموبايل والسيارة كانا شاهدين على كل ذلك ، نبضات قلبي وخطواتي

وموظفة خطوط الطيران وساره التي ركضت في كل الإتجاهات

لتجعل تلك الخطوة ممكنة .

خطوة بحجم سور الصين العظيم … أن تترك حياتك وراءك وتنطلق إلى المجهول .

البداية كانت مع وصولنا إلى مبنى واحد في مطار دبي الدولي قبل موعد الرحلة

بأربع ساعات ..

الانتظار كان صعبا ، كان أمرا لا يحتمل .. رحلتنا كانت الساعة الحادية عشر مساءا ،  

كنا أول شخصين في الطابور حتى قبل أن تفتح  مكتب خطوط الطيران

Cathay Pacific التابعة لهونج كونج ..

كانت عيناي مليئة بالدموع ، و كان قلبي قد توقف.  

كلمات الدنيا كلها تعجز عن وصف هذا الشعور.  

الكثير من التوتر ، جرعات خوف وقلق .. ربما رشتان سعادة ،

وملعقة كبيرة من الحزن ؟

وغيرها الكثير جدا!

كأنني خلاط بشري يبتلع الكثير من المشاعر المتناقضة .

لم أستطع أن أصدق أن هذا اليوم سيأتي بهذه السرعة ،

ولكن هذا هو قدري وأنا أعتقد ! الخوف .

أه من هذا المسمى الخوف الذي يضيع على المرء فرصة الاستمتاع بأية لحظة ..

كل لحظة أتلفت يمنة ويسرة خوفا من مجهول يترصدني ..  

لا أعرف! مجرد أمل في حدوث معجزة أو رسالة من الله ،

إذا كان موجودا، يطلب مني أن أستدير .

كنت أبحث حولي أنطر إلى جميع الركاب من حولي ؛ 

رجل يمسك يدي والدته ويبكي بصمت  

وهو يبتسم بطريقة غريبة كأنه يحاول تهدئة روعها ، 

ربما كان سفره إلى مكان ما أن ينهي دراسته

ويتخيل كيف أنها ستبقى وحيدة من دونه .

هناك أيضا زوجين يحتضنان بعضهما والسعادة تنفجر منهما

.. يبدو أنهما متزوجان حديثا وفي طريقهما إلى شهر العسل..

الجميع في هذا المكان يعرف بالضبط إلى أين هو ذاهب .. ولماذا .. ما عدانا ..

نحن نكتفي بلماذا … لماذا ؟

الجواب يطغى على كل تفكير ، وعلى كل رحلات الطيران هذه الليلة ،

لا يهم إلى أين ، المهم أن نخرج من هذه البقعة بأسرع لحظة ممكنة .. 

هذه ليست رحلة عادية ،

وليس لدينا أي فكرة عن المكان الذي نتجه إليه. ليست سفرتي الأولى طبعا ،

سافرت عدة مرات من قبل، ولكن هذه المرة مختلفة تماما..  

لم أجرب هذا الشعور سابقا ..  لأننا بالطبع على وشك تغيير حياتنا ، مصيرنا ، حريتنا . ..

ظللت أسحب هاتفي المحمول من حقيبة يدي لأتحقق من الوقت ،

وفي كل مرة أضحك على نفسي لأنني أغلقت هاتفي منذ ٣ ساعات تقريبا

تجنبا أية دراما محتملة قد تزيد من توتري الحالي .. سارا بجانبي ..

أنظر إليها وأعتصر كف يدها وهي ترد علي بابتسامة دافئة كفيلة كي تشعرني بأن كل شيء

سيكون على ما يرام خلال الدقائق الخمسة القادمة.. أغمضت عيني ،

وحاولت أن أخذ نفسا عميقا  لكنني فقدت تركيزي 

عندما فتحت موظفة خظوط الطيران المكتب ،

أشارت إلينا بالتقدم .... مشينا تجاهها بسرعة وسلمنا لها أوراقنا ؛ جوازات السفر ،

وتذاكر السفر ، و حجز الفندق . استغرق الأمر وقتها طويلا لمعالجة أوراقنا واستدعت زميلها .

- ما الذي يجري؟

- أنا آسفة يا  سيدات لكنني لا أستطيع أن أعطيكم بطاقة الصعود لأنكما لا تمتلكان تذاكر عودة .

- ماذا؟ هل تمزحين معي ؟ لماذا؟

- هذا هو قانون الهجرة في الولايات المتحدة ،

نحن لا نستطيع أن نفعل أي شيء عدا اتباع القوانين .

-  لكن لا يمكن أن يحصل هذا .. أمامنا أقل من أربع ساعات على رحلتنا

.. كيف يمكننا الحصول على تذاكر العودة الآن؟

- أنا أعتذر حقا ، لكنني فعلا لا أستطيع فعل أي شيء هنا

- لكنه لم يكن خطأنا من المقام الأول ، وكيل السفر الذي تعاملنا معه

لم يخبرنا أي شيء عن تذكرة العودة. طيب، هل هناك أي استثناء ؟

- الموضوع هو حتى وإن أعطيتكما بطاقة الصعود ، عندما تصلا إلى

الولايات المتحدة الأمريكية

سوف يسألونكما عن تذاكر العودة و إذا لم يجدوا ذلك، هناك احتمال كبير

أنهم لم يسمحوا لكما بالعبور

- هذا ليس عدلا !



بدأت أهلع، وسارا تهدئ من روعي ، طلبت مني أن أنتظرها هنا وأنها ستجد حلا سريعا.


انتظرت في مكاني كما طلبت مني ، لم أعد أشعر بشيء !

لحسن الحظ ، في تلك اللحظة بالذات ، غريزة الهروب نطقت أخيرا وبقوة..

شعرت بداخلي أنني لا أريد أن أتنازل عن فكرة السفر أو  العودة إلى المنزل.

الآن عندما بدأ الشك يتسرب في مخليتي بأن الرحلة قد تلغي  ،  

أيقنت أنني مستعدة لفعل أي شيء حتى أحلق عاليا  ، 

وأنا لن أتخلى عن هذه الرغبة على الإطلاق!
 
في ذهني أرسم خطة باء وتاء وثاء و في جميع هذه الخطط 

لا توجد فيها وسيلة إلى العودة إلى الوراء مطلقا.

الخطة الأولى كانت أن نذهب برا إلى سلطنة عمان .. 

نتريث هناك عدة أيام حتى نحجز لرحلة جديدة..

وقبل أن أنهي رسم أجزاء الخطة ، أقبلت من ستكون زوجتي لاحقا ، 

منقذتي مع ابتسامة ملائكية :

- نحن المغادرون ! Yaay ، اشتريت تذاكر من دناتا ، وسنطير الليلة !

عدنا إلى تلك الموظفة ، لكن في هذه المرة كان علينا أن نقف على الخط 

لأننا سنقف هذه المرة في صف طويل .. وعندما أتى دورنا وأعطيناها  

تذاكر العودة في نهاية المطاف

بدأت في معالجة بطاقات الصعود إلى الطائرة .

هنا دور العقبة الأخرى  ، ماذا يجري الآن ؟ لدينا وزن زائد جدا !..  

اضطررنا لشراء حقيبتين من أحد محلات الحقائب في المطار 

لتوزيع الأغراض فيما بينهما

و التخلص من الوزن الزائد حتى نصل إلى الوزن المطلوب .

أيوة نعم ! فعلنا ذلك ، في وسط قاعة المطار ، 

نفتح حقائبنا الكبيرة أمام كل المسافرين ونرمي الأشياء هنا 

وهناك ونتخلص من بعض الاشياء في القمامة دون النظر إلى محتوى الأشياء؛ لا يهم !

كله يهون المهم أن نخرج من هنا بأية طريقة..  ألقينا الكثير من الكتب للأسف.

مجرد التفكير في هذا اليوم يجعلني مريضة ومنزعجة وغاضبة!  

عندما تشعر بأن العالم كله في تلك اللحظة

يقاتلك ضد تركك لذلك المكان ، تلك الأرض التي ولدت بين أحضانها ،

وعشت عليه على مدى السنوات ال 25 الماضية من حياتي ولم أعرف وطنا غيره.

من الصعب جدا إحداث تغيير كبير ، من الصعب الإنعطاف بتلك القوة،  

إلا أنه كان يستحق ذلك ،

يستحق كل معركة، كل ألم شعرته في تلك اللحظة .

بعد معركة دامت ساعتين على أرض المطار ..

مطار دبي الدولي التي شهدت معركتي الأخيرة ..

معركة الحرية .. كنا في البوابة 4 في انتظار أن تفتح لنا 

أحضانها ونندفع بقوة دون عودة !

لم ولن أنس تلك اللحظة .. أورجازم النصر .. جالسة على مقعدي في الطائرة ،

سارا بجواري، وبدأت الطائرة تتحرك،

عيناي ليست على شيء سوى مدرج الطائرة المضيء من خلال نافذتي .

بدأت دموعي تنهمر كشلال نياغرا تزداد مع ازدياد سرعة حركة الطائرة ، 

رغبت في إيقافها .. دموعي أو الطائرة لا يهم ..

ولكن لم أستطع . أنا أعرف نظرية الجاذبية التي اكتشفها نيوتن ،

وكنت في طريقي إلى اكتشاف نظريتي الخاصة في هذه اللحظة .

.. أعني، ما هي العلاقة بين سرعة الطائرة مع دموعي المتساقطة ؟

ولكي أحل هذا اللغز ، وقفت عندما أعلن قائد الطائرة انتهاء مرحلة الإقلاع ،

وأقلعت عبايتي الوطنية التي كانت مبتلة تماما مع دموعي .

هل أنتٍ بخير يا ميس؟

- أعتقد .

- لماذا كنت تبكي؟ هل أنت نادمة ؟ !

- لا ! بالتأكيد لا ، أنا بالضبط مثل من كان يستغل الفرصة الأخيرة

لكي يقول وداعا لكل شيء..  

هل تعلمين أنني لن أر هذا المدرج مرة أخري؟
- أعرف ، لكن من يدري؟ قد نعود يوما ما لزيارة الإمارات ..

- أنا لا أعرف ، أنا حقا لا أريد أن أرى هذا المكان مرة أخرى .

- حسنا، أهدئي ، كل شيء سيكون على ما يرام .

- لا تقلقي علي أنا بخير .. على فكرة ، هذه العباية ، 

كانت تجعلني أشعر بأنني أكثر بؤسا .

- ها ها ها! كان عليك ارتداؤه في المطار ، وإلا فإن السلطات كانت لتشك بالأمر ..

- هذه الأيام قد ولت .. أيام الخوف انتهى خلص .
أنا لا أعرف كيف كان يمر الوقت ، ساعات طويلة ، ونحن في الجو .

ونحن نيام ، نأكل ، نتحدث قليلا ، ثم ننام مرة أخرى ونمشي قليلا ..

توقفنا بعد 11 ساعة من الرحلة في هونج كونج ترانزيت ،

كانت الخطة هي أن أرسل رسالة إلى قريبتي التي تعيش بولاية تكساس ،

أرمي عليها القنبلة ..

خبر هروبي من المنزل .. وأدعها هي تتصرف مع عائلتي .. تجد طريقة ما لتخبرهم بها ..

مهما حدث، لم أكن أرغب أن أدع والدتي تقلق على اختفائي المفاجئ دون توضيح ..

وهذا ما حدث .. وما إن فتحت حقيبة اليد لأخرج الهاتف حتى وقع ناظري 

على مفتاح سيارتي ..

هذا ما تبقى لي من سيارتي الجديدة نيسان ٢٠١١ ذو الدفع الرباعي ،

والتي رميتها في مواقف السيارة في المطار .. حتى هي تركتها ..   

استأنفنا رحلتنا لمدة 13 ساعة أخرى .  أوه إم جي !  كنا منهكين للغاية ..

ولكن أخيرا كنا في الولايات المتحدة الأمريكية . نعم أخيرا حققنا ذلك!

وصلنا حوالي الساعة 11 صباحا وكان من المدهش أن نستعيد

القدرة على التنفس .. على الشعور بروح الحياة .

وصلنا لجمارك مطار سان فرانسيسكو .. وبدأنا نشعر بالقلق مرة أخرى.

ماذا سيحدث لنا لو لم يختم لنا الأخ المحترم على جوازاتنا

ويدعنا ندخل لسبب من الأسباب ؟!

أكثر من ساعة ونحن نقف في طابور طويل جدا مع مئات من الأفكار،

و صيحات الأطفال المنهكين والجوعى..

لكن و أخيرا .. أخيرا .. تحقق الحلم .. نحن في أكثر بقاع الأرض حرية،

 الأرض التي تحترم الإنسان وتحميه .

الأرض التي تعطيك فرصة أخرى للعيش مرة أخرى ،

 الأرض التي يمكنك أن تجعل أي حلم يتحقق .. 

هنا .

فقط هنا ..